مقال من انجاز الباحث المهندس العربي الهلالي
عادةً ما يُطرح هذا السؤال: هل الوداغير جماعة بشرية أو جغرافي؟
للجواب عن السؤال لا بد أن نتعقب أصل هذه الكلمة وتطورها منذ القديم فنقول: لقد خضعت كلمة الوداغير لتقلبات صوتية متتالية قبل أن تستقر على الذي هي عليه. فأصلها “ورتطغير ” ، ثم صارت ورتدغير تارة و ورتضغير تارة أخرى، ثم حذفت راؤها فأصبحت وتدغير، وللتخفيف أكثر حذفت منها التاء فصارت ودغير، و وداغير بزيادة الألف…
2 وهي لدى السيوطي لقب نسبي للشيخ عبد الرحمن قال: “أصل شرفاء فجيج وهم وارتدغير واسمه عبد الرحمن”1 أو هي لقب أطلقه البرير على الإخوان السبعة النازحين إلى فجيج2. ويذكرون في ذات السياق أنها عين جارية استوطنها ذؤابتهم حقبة من الزمن، ثم بدا له أن يواصل السير إلى فجيج المستعصية على ابن أبي العافية، قال الفضيلي: ثم فر إلى فجيج من الصحراء واستوطن عين ورتدغير السيد عبد الرحمن بن علي بن إسحاق … 3 أو هي اسم قبيلة سكنت تلك العين فنسبت إليهم4.
ويذكر ابن أبي زرع في كتابه “الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية” نقلا عن حانون في تاريخه أن أورتطغير من القبائل الزناتية القديمة، وهو الرأي الذي كرّره غير واحدٍ من المؤرخين كابن خلدون مثلاً5 . والمرجح تبعا لذلك أن الشيخ عبد الرحمن نزل على هذه القبيلة.
وتبوأ عندها منزلة أهلته للاختصاص بها والانتساب إليها كما هو شأن الشرفاء الذين نزلوا على القبائل الأمازيغية في مختلف جهات المغرب، فارتبطت بها نسبتهم.
أما إذا كان المكان الذي نزل فيه الشريف عبد الرحمن عيناً مائية في الصحراء، فإننا لم نجد في شأنها إلا إشارة الرحالة العلامة الأديب أبي سالم العياشي، يقول فيها:” ….سادس يوم رحيلنا من القليعة، نزلنا على ماءٍ يقال له وَلْتَ دْغير ،ضحى يوم الجمعة التاسع والعشرين من جمادى الأولى، وهو بتر واحدٌ غزير الماء، في بسيط من الأرض بين جبلين، لا يخلو من العمارة في الغالب ممن يجاوزه من الأعراب، وغالهم أهل عافية لا إذاية فيهم”6
أصبحت نسبة الوداغير تجمع في إطلاقها إلى الآن بين النسبين معا ( الطيني و الجغرافي)، حتى استغلق الأمر على كثير من أبناء فجيج وغيرهم، فاعتقدوا وهما أن كل من يسكن قصر الوداغير شريف يمت بصلة إلى الشيخ عبد الرحمن الورتدغيري. وبإمكاننا أن نرفع هذا الوهم بالتمييز بين النسبين (الطيني والجغرافي)
2 النسب العرقي أو الطيني
واضح أن الورتدغيري يطلق على كل من ينحدر من الشيخ عبد الرحمن، سواء سكن في قصر الوداغير، أو في القصور الأخرى في فجيج أو خارجها بفاس ووجدة والجزائر وتونس و ليبيا و مصر و العراق و السعودية و غيرها من بلاد المشرق و دول جنوب الصحراء … ولو تتبعنا أنساب أسرنا، واستقصيناها استقصاء تحقيق و تدقيق، لتبين لنا أن هناك قصوراً تختزن من الورتدغيريين أكثر ما يختزنه القصر الذي يحمل اسمهم، وهذا ينطبق على قصر زناقة والمعيز أيضاً حيث تتجمع أسر آل سيدي عبد الجبار، و آل سيدي عمرو، وأولاد زيان بن مَحمد، وأولاد امبارك بن زيّان، وأولاد عجليل، وأولاد رحمون، وأولاد قاسو، وأولاد المير، وأولاد الغازي… كل هؤلاء وغيرهم ثبت انتماؤهم إلى الشيخ عبد الرحمن بالدليل الموثق لا بالرواية الشفوية وتدقيقي، لتبين لنا فقط، فنسهم الطيني ورتدغيريون، ولكنهم نزلوا بقصر المعيز وانتسبوا إليه، واستظلوا جميعاً تحت نسبة “اللمعيزي” دون الورتدغيري، أي تغلب نسبهم الجغرافي على نسبهم الطيني. وقل مثل ذلك في قصر زناقة ،وحتى في الحمام التحتاني، وهي القصور التي أجرينا عليها بحوثاً تعمقنا في بعضها، ومررنا على بعضها الآخر مرور الكرام….
والحقيقة أن أنساب الفجيجيين يعلوها طبقات كثيفة من غبش التحريف والتدليس، أصبحت معها في حالة يرثى لها من الميوعة والفوضى، إلى درجة يستحيل معها إنشاء شجرة نسب صحيحة في الحالات. ولا شك في أن صقلها وتلميعها يحتاجان إلى جهود عزيزة قد لا تتأتى لأي واحدٍ من المهتمين في غياب المعطيات الموثقة والمأمونة
الفقرة الثالثة و الأخيرة :النسب الجغرافي
قلنا آنفاً غير بعيد إن عدداً من الأشراف الورتدغيريين نزلوا بالقصور الأخرى، فاشتهروا بنسب الجغرافي اشتهاراً طغى على نسبهم العرقي وغطاه، حتى نسي الناس أن القصر مأهول بعدد معتبر من الأشراف يفوق ما يحتضنه قصر الوداغير نفسه الذي امتزجت تركيبته البشرية ،كغيره من القصور، فشملت أمازيغا وعرباً وأشرافاً وحراطين وعبيداً ويهوداً لا تجمعهم بالشيخ عبد الرحمن الورتدغيري أي علاقة
أضف إلى هذه الأسرة عدداً آخر لا يجمعهم بالورتدغيريين إلا النسب الجغرافي لأنهم أبناء عيسى بن المولى إدريس مثل أولاد عرهب…
ومن العرب القاطنين بالقصر آل الرقاد، وأولاد يعّو، وأولاد ودرنْ… وهلمّ جراّ إلى ما إلى ما نجده مسطوراً في دواوين الأنساب وشجراتها
وهؤلاء غالباً ما يوثقون نسبهم، وبعضهم لا يشير إلا إلى النسب الجغرافي، ونجد ذلك بكثرة عند أعلام قصر زناقة لأنهم لم يكونوا يحتفلون بقضية الشرف كما فعل غيرهم، فأولاد مرزوق مثلاً شرفاء لكن قائدهم أيام الحسن الأول كان يكتفي بتوقيع رسائله الرسمية بنسبه الجغرافي لأنه النسب الدائم والمشهور و به كان يرد عليه السلطان ويجيبه، كأن يقول: “خديمنا الحاج بومدين الزناكي” وقد يتوسع إلى عموم نسبته الفجيجية مثل: “خدامنا الأرضيْنَ القائد محمد بن مرزوق الفجيحي”. وكذلك الأمر بالنسبة للفقيه الألمعي المتصوف العارف الشيخ محمد اللحياني، فعلى الرغم من كونه ورتدغيريا، كما جاء في نظم الشاعر المفلق إبراهيم بن عبد الجبار، فقد كان يُشار إليه في الكتابات التي اطلعنا عليها مقروناً بالتسييد “سيدي محمد اللحياني الفجيجي الزناكي”1 دون الورتدغيري
أما الوريدغيريون الساكنون في قصر الوداغير فلم يكونوا في حاجة إلى بيان نسبهم الجغرافي بسبب تداخله النسب العرقي، الذي يظهر لامعاً في مختلف وثائقهم، مثلما نقرأ في طالعة هذا الحبس:” حبّسَ الإخوان الجلّةُ أولاد المرحوم بكرم الله تعالى أحمد بن محمد بن زيان الورتدغيري، وهم: عبد الرحمن والتنوري والصغير وبلقاسم وزيان…”2 والورتدغيري هنا نسب مزدوج طيني وجغرافي في ذات الوقت. وإمعاناً في التوضيح رأينا بعضهم يلجأون إلى التخصيص بذكر نسبته إلى الجد الجامع لفرع معين كالجمالي والزياني وغيرها من الفروع الورتدغيرية، وهذا مثال على ذلك: “تحاكم الحاج أحمد بن أحمد بن عبُّ الزياني الودغيري متكلما عن نفسه….”3، فبين لنا أنه ودغيري، ولكن من فرقة أولاد زيّان. ونقرأ في حكم آخر: “تحاكم الفريقان (…) مولاي الشيخ بن بلقاسم بن عزّ الجمالي..”4. وهكذا….
وقد يضطرون إلى التمييز حينما يعيشون خارج القصر إما داخل الواحة أو خارجها، ونستشهد هنا بنموذج واحدٍ منهم دفعه استقراره في قصر المعيز إلى تبيين أصله: “مولاي أحمد بن عبد الحق الفجيجي الودغيري أصلاً، ثم المعيزي داراً ومولدا “5
أما إن كان من الطارئين على القصر فتوضيح أصله ومحل قراره أمران ضروریان، خاصة أن فجيج كانت موئلاً موروداً لمجموعات بشرية مختلفة الأوطان والأعراق، وكمثال على ذلك نقتطف هذه الإشارة من أحد الرسوم: “اشترى الأخوان الشقيقان (..) من البائع لهما السيد عبد الرحمن بن محمد فتحاً بن بلقاسم بن اسْعيد الشلالي نسباً الوتدغيري داراً وقراراً”6. فأنت ترى كيف أصبح هذا الرجل الذي جاء من قصر الشلالة ملتحماً مع النسيج الودغيري يملك ويبيع ويشتري، ولو أجَلْنا النظر في الوثائق المحلية لوقفنا على أنساب جغرافية متعددة كالونيفي، والعيوني والوجدي، والدرعي أو الدرعاوي والكرزازي والجومي، نزلوا قصر الوداغير فانتسبوا إليه سكناً لا أصلاً
أما قبل ذلك فقد كان قصر الوداغير يسمّى (أيْتْ عدّي) نسبة إلى الشيخ الصالح سعيد الملقب بعدي بن مخلوف جدّ الشرفاء المخلوفيين. وعدّي عند الأمازيغ هو سعيد، وفي هذا السياق ذكر المرحوم محمد المختار السوسي في المعسول أن أهل سوس لم يكونوا ينادون علاّمتهم الشهير محمد بن سعيد المرْغْتي (ت 1089هـ) إلا “ابن عدي” بدل ابن سعيد، ويروي في ذلك قصة ليس هنا محل لذكرها.
هوامش:
1أبوبكر محمد السيوطي، نسب بعض الصحابة والأشراف الإدريسيين 46( مجموع مخطوط المكتبة الوطنية 1440ك)
2ابن جزي الكلبي، كتاب في الأنساب 144 (مجموع مخطوط المكتبة الوطنية: 1440 ك)
3 إدريس الفضيلي: الدرر البهية والجواهر النبوية 68/2 (تح: أحمد بن المهدي العلوي، ومصطفى بن أحمد العلوي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1999/6)
4 نقيب الأشراف عبد القادر الشبيهي ديوان الأشراف: 128 (مع م و: 1080 ك)
5 ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون 77/7
6ماء الموائد 112/1
1 رسالة مخطوطة
2حبس مؤرخ في: آخر شعبان 985هـ 1577/11/12م (انظر نصه كاملاً عند هلالي، فجيج تاريخ وثائق ومعالم 81)
3 حکم مؤرخ في 2 رمضان 1235هـ – 1820/06/13م.
4 حكم مؤرخ في أوائل جمادى الثاني 1186هـ –
5 إشهاد مؤرخ في 15 جمادى الثانية 1225هـ – 1810/07/18م.
6 رسم شراء مؤرخ في أواسط شوال 1211هـ – 1794/04/13م